الجمعة، 13 نوفمبر 2015

كاتب على باب الله ..!

كاتب على باب الله ..!

مجلة ثقافية تنشر فيها مقالة أو قصة أو دراسة أو بحث دون أن تحصل على مردود مادي مقابل نشرك ، مقابل جهدك الفكري و الأدبي ، ثم تجد نفسك فوق كل ذلك مطالب بشراء هذه المجلة التي كنت أنت و غيرك من الكتّاب / الكاتبات سببا أساسيا في مبيعاته في دور النشر و المتاجر و المكتبات ، فأين العدل و أين الإنصاف ، أين القانون الذي يصون حقوق الكاتب .. ؟!
يحدث هذا الأمر كثيرا ، مرارا و تكرارا في عالمنا العربي ، يحدث دائما ، ينسى كثيرون بل يتناسون عمدا و اعتباطا بأن أجر الكاتب في استحقاقه كأجر العامل في حقل العمل ، الأمر سيان ، كثير من المجلات و الصحف تؤجل دفع مستحقات الكاتب كما تؤخّر بعض الشركات دفع أجر العامل ، صحف و مجلات أخرى تنس مسألة الدفع المادي و لا تعد ذلك مشكلة تستحق التفكير أو حتى الاهتمام ، بينما البعض يأكل أجر الكاتب دون أن يؤنّبه ضميره بل ينام نومة الظالم مرتاح البال دون أن يبالي و لو قليلا بالحق المهضوم للكاتب حتى لو كان مبلغا رمزيا ، صاحب الشركة مطارد بالقانون و ثمة قانون يحفظ حقوق العامل ؛ لذا يضطر حين يكون مفلسا أن يبيع حتى ملابسه لدفع أجور العمال حماية لنفسه من العقاب القانوني ، و لكن على الكاتب ، الكاتب وحده حين تعاني المجلة أو الصحيفة من الإفلاس أو تغلق لأسباب لا حد لها في عالمنا العربي ، فإن عليه أن يكون كائنا مثاليا ، و يسقط أمر حقوقه ، المجلة مفسلة و اعتذار مدير المجلة أو الصحيفة هو بمعنى اسقط حقوقك المادية أيها الكاتب لا مستحقات لك عندنا ، طالما لا يوجد قانون يحافظ حقوقك أو يهتم بها ، فلماذا أبالي بها أنا مدير المجلة المفلس ..؟!
" أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه " هل فكر يوما مدير مجلة أو صحيفة أن الحديث النبوي يشمل الكاتب و أجره أيضا ..؟
 الكاتب كأي آدمي على وجه الأرض لديه مسؤوليات حياتية ، فالمسألة هي مسألة مبدأ ، لكن هذا المبدأ يعاني من خلل فظيع في مجتمعات ترى أن عدم دفع أجر العمال نظير عملهم في إحدى الشركات أمرا مستهجنا و لكن في الوقت نفسه لا أحد يستهجن ضياع أجر الكاتب ..؟
إذا كان مدير المجلة أو رئيس تحرير الصحيفة هو كاتب أيضا و لا يرى بأسا في إهمال الأجر المادي للكتاب ناهيك عن إهمال جهده الفكري فكيف يمكن أن نلوم المجتمع ..؟!
المجتمع المغرم بالمسلسلات و أفلام السينما و برامج الحوار و كليبات الفنانين والفنانات و يطرب مع كلماتهم و ينتشي بها و كلها تظهر حشدا من النجوم ، النجوم الذين يتعلق بهم و يكون ضمن الملايين يتابع أخبارهم على وسائل التواصل الاجتماعية ، تتمظهر ثقافة ظهور النجوم ، و ينسى الجمهور و ينسى المجتمع أن الكاتب هو من كتب تلك الكلمات لأغنيته المفضلة بصوت فنانه المفضل ، و أن الكاتب هو من كتب سيناريو المسلسل العظيم الذي يتابع حلقاته بشغف ، و أن الكاتب هو من فكر و أطلق كافة طاقاته الخيالية منها و الواقعية في كتابة الفيلم السينمائي الذي حاز على جوائز ، كل هذه المرئيات والبصريات وراءها كاتب ، لكن من يبالي بالكاتب ، لا يكفي أنه وراء الكواليس بل حتى أن أجره لا يتعدى بضع نتف تقدم له لا يقارن البتة بأجر الفنان الذي يجني الملايين ، يحدث هذا فقط في عالمنا العربي ..؟
من كرّس هذه الثقافة الدونية تجاه الكاتب و جهوده و أجره ..؟ من جعل هذه الثقافة تتفشى ..؟ هل فكر أحد يوما ما أن الفنان و الممثل و النجم ينتهي أمره تماما حين لا يكون ثمة كاتب خلاق أو مؤلف سيناريو جيد ، هل كان لمسلسل " قلم حمرة " أن يحظى بالشهرة و القبول العربي الكبير من قبل جمهور المتابعين لولا فكر و جهد كاتبة السيناريو " يم مشهدي " ..؟
الكاتب الذي يرفع صوته في مظاهرة رفع أجور العمال الغلابة في وطننا العربي ، العامل الأجير الذي يهضم معظم حقوقه ، الذي تؤّخر أجوره ، الذي يعاني بسبب الأزمات الاقتصادية و جشع الرأسماليين ، الذي يموت يوميا مقابل ضخ أسرته بالحياة على حساب نفسه ، الكاتب نفسه عاجز عن المطالبة بحق رفع أجره ككاتب حين ينشر مقالة أو قصة أو دراسة ، كيف يحق له أن يطالب بهذا إذا كانت حقوقه المادية مأكولة ، إذا كانت حقوقه مسقوطة أصلا ..؟!

ليلى البلوشي

الثلاثاء، 3 نوفمبر 2015

رواية يجب أن تدّرس في كل مدرسة

رواية يجب أن تدرّس في كل مدرسة

في جزيرة إندونيسية تدعى " بيليتونج " تحت صهد الشمس ينتظر تسعة تلاميذ مع آبائهم الفلاحين و صيادي سمك ، مع أمهاتهم الأميّات ربيات البيوت ، مع معلميهم الوحيدين " هرفان " و " بو مُس " وهما بكامل توترهما ، كان قد وصل حد انتظارهم حتى ساعة الضحى الحادية عشر و بدا أن رهبة الانتظار الطويل تبعته خيبة مريرة غزت أعضاؤهم ؛ فالمسألة هي انتظارهم للتلميذ رقم عشرة الذي ينقذهم من إغلاق أهم و أقدم مدرسة إندونيسية في تلك الجزيرة العامرة بخيرات الطبيعة رغم ذلك تعاني من فقر مدقع بسبب الرأسمالية المتوحشة ، لكن المدرسة تبقى مفتوحة في وجه المستبدين بفضل التلميذ رقم عشرة الذي يصل في الدقيقة الأخيرة و يكون المنقذ ..!
 " المدرسة المحمدية " هي مدرسة الفقراء في جزيرة يعاني أهلها من الفقر المدقع ، كان أبناؤهم يعملون و هم في سن صغيرة في مهن شتى لإعالة عائلاتهم ، لذا عزف الجميع عن دخول هذه المدرسة إلا هؤلاء التلاميذ التسعة يدفعهم التحدي و كان شرط المفتش الرأسمالي أن يكون عدد الطلاب عشرة حتى لا يغلق المدرسة المهدمة على رؤوسهم و إلى الأبد ..
كان وجود هذه المدرسة كفاحا ، كفاحا حقيقيا يوم بناه المعلم " هرفان " بيده من خشب الجزيرة ، بنى هذه المدرسة بعزم و محبة و لغاية واحدة لم يحد عنها حتى وفاته هي نشر المعرفة والعلم بين أطفال جزيرة " بيليتونج " ، لقد عمل دؤوبا حتى ساعات احتضاره كثوري حقيقي ، وكانت المعلمة الشابة التي أكملت تعليمها الثانوي " بو مُس " و التي لم يتجاوز عمرها الخمسة عشر تسانده بكل ما أوتيت من قوة وعزيمة ، و الطفل " أكال " راوي هذه الرواية شهد مدى الصعوبات التي واجهتم مع معلمتهم " بو مُس " في ظل مجتمع مادي ، لكن على الرغم من تلك المصائب المتوالية من أصحاب الأطماع ظلت المعلمة قوية ووفت بوعدها لتعليمهم حتى النهاية ، و بفضل جهودها الجبارة كانت هذه الرواية الملهمة ؛ فالطفل " آكال " أحد تلامذتها كان قد قطع وعدا على نفسه للكتابة عنها حين يملك ميزة الكتابة الجيدة ؛ ليعرف العالم نموذجا حيّا لمعلمة كــ" بو مُس" حكاية كفاح و مقاومة كبيرة ..
 لقد فعلها " أندريا هيراتا " في رواية " عساكر قوس قزح " أو كما لقبتهم " بو مُس " بلكنتها بيليتونجية " لاسكار بلانجي " بيع منها خمسة ملايين نسخة في أندونيسيا حين صدورها و ترجمت إلى عشرات اللغات منها العربية ، هذه الرواية الملهمة حقا لكل طالب و لكل معلم و لكل هيئة تعليمية ، لقد كانت " بو مُس " أيقونة الأمل و المقاومة ..
في جزيرة طافحة بالموارد الطبيعية التي لم ينتفع منها السكان الأصليون ؛ لأن الشركات الهولندية القوة الاستعمارية المسيطرة هي وحدها من كانت تبتلع الخيرات ، لذا كانت الجزيرة تعاني من الطبقية ، حيث سكانها الفقراء المنسيون ، وحيث أصحاب الشركات و أبنائهم الذين كانت لهم ملكية بنيت بيوتها كقصور فيكتورية ، و كانت مدارسهم معّدة بفخامة لا تقل عن قصورهم ، من كان سيصدق بوجودها في جزيرة كجزيرة بيليتونج ..؟!
و كانت لافطة " لا يسمح لمن لا شأن لهم بالاقتراب " مرفوعة كصفعة في وجوه سكان الجزيرة المعدمين .. " كانت الملكية معلما من معالم بيليتونج و قد بنيت لتكفل استمرارية حلم الانتشار الاستعماري المظلم هدفها منح السلطة لقلة من الناس مقابل قمع العديد و تعليم القلة فقط لضمن انصياع الآخرين " ..
كانت المدرسة المحمدية تسير على نهج التعليم الديني ، و من يسمع ذلك يعتقد بوجود تطرف من نوع ما ، لكن المعلمان " هرفان " و بو مُس " كانا يؤمنان بأن الدين هو خلق يلتزم به الإنسان تجاه نفسه أولا ، لقد كان الدين بالنسبة لهما هي الأخلاق و الأمانة و التعليم الجيد ؛ لذا لقد ورث طلابهم العشرة عنهم ذلك ..
كان بإمكان " بو مُس " أن تقبل بالعروض التي وصلتها من شركات هولندية بتعويضها عن المدرسة المحمدية المتهالكة ، و التي وجدوا في أرضها نسبة كبيرة من اليورانيوم بالمبلغ الذي تحدده و كان بإمكانها أن تعمل كبقية زملائها في مدرسة فاخرة تابعة لأرض الملكية و تتقاضى مثلهم راتبا باهضا ، لكنها رفضت كل تلك العروض ، فقد أبت أن تفرط بالأمانة ، بالمدرسة المحمدية التي أصبحت هي وحدها مسؤولة عن استمرارها ، كانت أنموذجا عن المعلم الذي يترفع عن أهوائه و مصالحه الشخصية ..
و إذا أردنا التحدث عن شخصيات الرواية ، الأطفال العشرة ، الذين أطلقت عليهم " بو مُس " لقب عساكر قوس قزح ، فقد عايشوا كل الصعاب الدراسية ، واستطاعوا بعزيمة على فوز بجائزتين في الفنون الاستعراضية و أخرى في مجال التفوق الأكاديمي رغم مواردهم المعدومة ، الأطفال الذين كان لكل واحد منهم أحلامه ، و ظلوا أعواما يسعون لتحقيق تلك الأحلام ، و لعل أبرزهم الراوي الطفل " أكال " الذي حلم يوما أن يكون كاتبا ، لكن أشدّ التجارب و أوجعها كانت تجربة الطفل " لينتانج " الذي أتقن الكتابة جيدا في الصف الثاني وكان أذكى التلاميذ ، الذي كان على متن دراجته القديمة يقطع أكثر من  40 كلم يوميا في طريقه من و إلى المدرسة ، الذي كان مضطرا حتى في أحلك الأوقات على المخاطرة بحياته حين يعبر نهر يسبح فيه كثير من التماسيح ؛ كي لا يفوت حصصه الدراسية ، الذي باع خاتم زواج أمه حتى يصلح سلسلة دراجته التي كانت تتعطل باستمرار ، الذي فاز عن جدارة بجائزة الاستحقاق الأكاديمي ، فقد كان عالما في الرياضيات و الفيزياء ، الذي ترك المدرسة بعد أن مات والده المعيل الوحيد لأسرة فقيرة يفوق عدد أفردها أربعة عشر فردا و معظهم من الأجداد و الفتيات الصغيرات ، كان الطفل " لينتانج " مثالا صادما عن كيف يمكن للفقر أن يهدم أهم الطاقات الإنسانية عند الأطفال و يهدرها في غمضة عين ، كان يمكن جدا أن يكون عالما في الرياضيات أو الفيزياء و ظل هذا الحلم يراود قلب الفتى الصغير ، لكن الحياة القاسية كانت أقوى و حطمت آماله ..!
اقرؤوا هذه الرواية ، اقرأوها لأبنائكم و لطلابكم ، فهي تجربة مثابرة في دروب التعليم و طريق إلى تحقيق الأحلام في عالم متهالك ..

ليلى البلوشي

كلنا نصدّقك يا " يانكوفيتش " ..!

كلنا نصدِّقك يا " يانكوفيتش " ..!

لقد ظل " يانكوفيتش " الشرطي الصربي العجوز إحدى شخصيات قصة الكاتب العراقي " حسن بلاسم " التي حملت عنوان " شاحنة برلين " يحكي لأقسام الشرطة الصربية و لكل الناس عن الفظائع التي رآها بأمّ عينيه لشبان عراقيين هاربين في شاحنة وجدها متروكة كجثة كبيرة في عزلة الغابات ، بعد أن فرّ سائقها إلى حيث لا يعلم أحد ، حتى أن زوجته ، أقرب الناس إلى قلبه عدت ذلك ضربا من الخيال ..!
ففي صيف عام 2009م كما يسرد القاص " حسن بلاسم " عن بطل يعمل في بار في اسطنبول ، لغته ركيكة غير أن البار كان يؤُّمه ألمان كانت أيضا لغتهم رديئة ، في تلك السنوات الوحشية في الغربة هربا من بلد متطاحن أراد هذا الشاب أن يصل إلى وجهة لا تفقده هويته ولا كرامته أو إنسانيته ؛ لذا قام بجمع مبلغ من المال ، كي يفرّ إلى أرض أخرى ، قد تكون أكثر أماناً و أوفر حظًّا ، لكن طرق التهريب كانت مختلفة و معظهما غير مأمونة ، يضطر فيه معظم الهاربين إلى المغامرة مهما بلغت النتائج وخيمة ، فهم هاربون من الموت و الفقر والعدم والجلاد ماذا بقي أمامهم سوى السعي الحثيث للخروج من مأزق هذه الحياة إلى حياة أكثر قيمة و معنى بالنسبة لهم ..؟!
 كانت أرخص طرق الهروب هي المشي في الغابات مع المهرب حتى يقوده إلى دولة حدودية تكون المنفذ ، بينما كانت أكثر طرق الهروب رعبا وغير مأمونة إطلاقا هي الهروب على متن شاحنة و في عتمتها يختلي الهارب مع أكثر من خمسين فردا ربما ، كانت فكرة الهروب عن طريق شاحنة آخر اقتراحاته لا سيما وعقله مسكون بهواجس مرعبة عن " شاحنة برلين " تحديدا كما رواها رجل أفغاني له باع طويل في حكايات المهربين ، هو بنفسه كان هاربا ، سكن في اسطنبول عشرة أعوام بطريقة غير قانونية ، عمل في التزوير و بيع المخدرات ..
 حكى " الأفغاني " عن مجزرة شاحنة برلين ، عن خمسة و ثلاثين شابا عراقيا ، شبان حالمون اتفقوا مع مهرب تركي لينقلهم بشاحنة مغلقة لتصدير الفواكه المعلبة من إسطنبول حتى برلين ، وحين دفع كل واحد منهم مبلغ أربعة آلاف دولار تمت الصفقة خاصة وأنهم سمعوا عن نزاهته في نقل الهاربين كما أنه رجل حج ثلاث مرات بل كان يدعى " الحاج إبراهيم " ، و أصبح هؤلاء الشباب الهارب بأحلامهم على متن شاحنة فواكه المعلبة ، كانت ثمة قوانين ، فالتغوط كان في النهار فقط ، أما التبول فكان مسموحا به في أثناء الليل في قناني الماء الفارغة ، ممنوع حمل الهواتف الخليوية أثناء الرحلة ، و ممنوع الصراخ والعراك ، بل يجب أن يكون تنفسهم على قدر كبير من الهدوء ، فالطرق خطرة و المراقبة مضنية ..
مر اليوم الأول بسلام ، كذلك اليوم الثاني ، كان يتخلل طريق الشاحنة وقوف للتنفس و التهوية عن الروح و شراء طعام و قناني الماء على وجه السرعة أو قضاء الحاجات في ستر الأحراش ، كلف السائق شابان ليتكفلا تنظيم هذه الأمور ..
كانت الشاحنة تمضي في طريقها بحذر كبير و كانت تحرسها سيارات في بعض الطرق ، ولكن في يوم شعر الشبان بأن الشاحنة استدارت و أخذت تقطع طريقها بسرعة جنونية ، لقد كان موقفا مرعبا للجميع ، فهم مكتظين في عتمة صندوق الشاحنة ولا علم لهم عما يجري خارجها ، هل كانت الشاحنة في طريقها إلى أرض الفرار حيث أحلامهم الضخمة بانتظارهم أم أنها تعود أدراجها خائبة ..؟
 ظل هذا الأمر شاغل الشباب الخائف ، كان نقاشهم في البدء هادئا ملؤه المخاوف وعدم اليقين حتى أن بعضهم كان يقرأ القرآن الكريم ليعم السلام في أرواحهم المرعوبة ، غير أن مع مرور الوقت أصبح الجدال عاليا ، و صوت الخوف مرتفعا حين توقفت الشاحنة فجأة وهي في طرقها إلى منعرجات ترابية ، كان توقفها مفاجئا لــ خمسة وثلاثين شابا عراقيا الذين ظلوا طوال ثلاث ساعات ينتظرون الخبر اليقين ، لكن انتظارهم تبدد ، و تحول الجدال إلى طرق على باب الشاحنة محكم الإغلاق ، في وسط تلك العتمة الصارخة كان الجميع في حال لا تسر ، بدوا كوحوش وهم يخبئون طعامهم وهم يجادلون ليس بأصواتهم فحسب بل بأيديهم و أرجلهم ، وسط هذه الفوضى الرهيبة كانت روائهم تفوح ، أكثر الروائح البشرية نتانة و عفونة ، رائحة لا يطيقها حيوان فكيف بآدميين ، كانت تتراكم كل لحظة تمر مثل طبقات كالحجر ..!
أخذت الشاحنة تهتز بعنف في مكانها و انداح الصراخ والرعب ، أصوات استغاثة مثل حمم بركانية كانت تطيش ، كانت صوت استغاثاتهم زلزالا في قلب الشاحنة المظلمة ..!
بعد أربعة أيام عثرت الشرطة الصربية على الشاحنة عند أطراف مدينة حدودية تحيط بها الغابات من كل الجهات ، و حين فتحوا الباب الخلفي للشاحنة نط شاب ملطخ بالدماء من داخلها و ركض كالممسوس صوب الغابة ، في الشاحنة كان هناك أربع و ثلاثون جثة متكدسة على بعضها ، كما كانت مليئة بالخراء والبول والدم ، والأكباد الممزقة ، والعيون المقلوعة تماما كما لو أن ذئابا جائعة نهشتها ..!
و لم يصدق أحد " يانكوفيتش " الشرطي الصربي العجوز ، بل كانوا يسخرون منه ، القصة مستحيلة بالنسبة لهم ، لكن أنا أكيدة ، أكيدة تماما أن كل من في العالم اليوم ليس فحسب أقسام الشرطة الصربية أو زوجته يصدقون تماما ما حكاه " يانكوفيتش " في ذاك النهار عن " شاحنة برلين " ..
لكنني سأعترف يا " يانكوفيتش " بأني لو لم اقرأ هذه القصة في هذا التوقيت بالذات لما صدقتك أيضا ، فمنذ أعوام حين كتب الكاتب الفلسطيني الشهيد " غسان كنفاني " رواية " رجال في الشمس " وقتها كانت هذه الرواية في حيز الخيال ، خيال كل عربي تحديدا حتى الفلسطيني نفسه ، وكان " كنفاني " وقتها يجس مرارة الجرح الفلسطيني الشريد في كل بقعة من العالم ، ووقتها أيضا لعلنا لم ندرك أن حكايته نبوءة ، نبوءة حقيقية مرعبة عن واقعنا العربي القادم ..!
أما قصة " شاحنة برلين " التي عشت تفاصيل رعبها يا " يانكوفيتش " هي عن الواقع العراقي الذي لا يقل مرارة عن الواقع الفلسطيني ، وكنا أيضا سنعدّها عن العراق و حسب طوال تلك الأعوام ، لكنها الآن في عام 2015 م هي أيضا صرخة عن الواقع السوري الذي فرّ أكثر من نصف شعبه إلى براري مجهولة بطرق لا يعلمها سوى الله ، و كان آخرها في شاحنة دواجن حيث استيقظ الواقع العربي على نبأ مرعب شبيه في القصص والروايات التي سبقت وقرأناها واعتبرناها مجرد خيال مبالغ من فكر الكُتّاب الهاربين إلى ملاجئ المنفى ، لكن الواقع العربي الآفل أثبت أن واقعها أكثر رعبا من القصص نفسها ومن الروايات التي تروى حكاية رعبها ..!
وكل هذا الصراخ المهول و العالم بشقيه العربي و الغربي ما يزال متفرج صامت ؛ ربما هي نبوءة أخرى لانتهاء هذه الأوجاع الرهيبة كما ذهب " وليم جيمس " : " هكذا ينتهي العالم ، لا برجّة عنيفة ، و إنما بنواح خافت " ..!
ليلى البلوشي

الاثنين، 2 نوفمبر 2015

أرض الخواء .. تيك دابرا ..!

أرض الخواء .. تيك دابرا ..!

من يعرف أرض الخواء المعروفة بــ" تيك دابرا " في عمق صحراء غامضة لم يسبر سرها ولم ينج من متاهتها سوى رجل واحد في هذا العالم .. ؟!
في هذه الأرض عليه ألا يكون بطلا من لحم إنما حجر بلا دم ؛ لأن الحجارة وحدها استطاعت أن تشكل جزءا من المشهد ، رحلة في قلب الموت لم يطلقها سوى رجل طارقي يدعى " غزال صياح " المعروف بالصّياد ، أموهاغ من كيل – تالغيموس .. " أموهاغ " هو لقب يطلقه الطوارق على أنفسهم وتعني " النبيل " ..
يتطرق الروائي " ألبرتو باثكث فيكيروا " في روايته المشوقة " طوارق " ترجمة عبدو زغبور .. إلى حكاية " غزال صياح " وهو رجل طارقي ينتمي لنسب نبيل ، يستقبل في ضيافته رجلين أحدهما مصاب وآخر تجاوز سن الشباب ، ويحدث أن يفاجئ مضربه في الصحراء جنود يطلبون الضيفين ، وحين يرفض الطارقي تسليمهم ؛ لأنهم في ضيافته ومن ضمن قوانين الطوارق احترام هذه الضيافة والذود عنهم كما لو أنه يذود عن شرف عائلته ، ولكن الجنود لا يأبهون لقوانين الطوارق التي يرون أن الزمن عفا عليها ، ولهذا يقتلون أحد الضيوف بينما يجرون الآخر معهم ، ولهذا الرجل حكاية طويلة ..
يشعر الطارقي بعد مغادرتهم بإهانة كبيرة ؛ لأنهم تعرضوا لمن كانوا في ضيافته وتحت حمايته وأنهم لم يحترموا ذلك وأهدروا كرامته كطارقي نبيل ، ولهذا يطلب من أهله أن ينقلوا مضاربهم إلى مكان آخر في قلب الصحراء الواسعة ، بينما هو ركب على جمله وحمل معه سيفه وبندقيته العتيقة وقربة ماء ، وتوجه رأسا إلى القصاص لكرامته المهدورة بقوانين الطوارق ، ليطبق العدل ، وكان أول من اقتص منه هو رجل طارقي مثله ؛ لأنه دل الجنود على مضربه ، وهو يعرف تماما عادات الطوارق عن إكرام الضيوف ، وبضربة سيفه يقطع رمق حياته دون اعتراض من أفراد عائلة الرجل وقبيلته الذين شهدوا المبارزة الطارقية ..
ثم يتوجه رأسا إلى الكابتن قائد الجنود الذي بعث الجنود لاعتقال أحد ضيوفه وقتل رفيقه ، ولم يكن الطارقي يعلم شيئا عن الرجل المخطوف الذي اعتقله الجنود ، وحين كان السيف قاب قوسين أو أدنى من رقبة الكابتن سأله الطارقي عن الرجل المعتقل فهو ضيفه وسيحرره من قبضتهم كي يصون كرامته ، فأخبره الكابتن بأن الرجل هو " عبد الكبير " مجرم اقترف كثير من الجرائم غير أن الطارقي لم يقتنع بكلامه ، وقبل ذبحه أخذ منه معلومات عن المحافظ الذي أمر بمهمة القبض ..
تمكن الطارقي المهيب " غزال صياح " بعد أن اشتهر في تلك البقاع من أن يصل للمحافظ ويهدده ليعرف مكان " عبد الكبير " فعرف منه بأنه بطل قومي ، وخاض غمار تحرير بلاده من الفرنسيين ، واستلم السلطة لثلاث سنوات ونصف ، ولكن أصدقائه الثوار غرروا به ، وقاموا باعتقاله وحبسه في حصن منيع وسط الصحراء ، حيث بقي فيها لأربعة عشر عاما ..!
ولأجل تحرير " عبد الكبير " الذي لم يكن الطارقي يعرفه كما لم يعرف عن شؤون البلاد شيئا بل لم يعرف أن بلاده استقلت من الفرنسيين ، وأن ثمة حدودا ستفصل الصحاري الشاسعة حيث مضاربهم ، كل ذلك لم يعرفه الطارقي ، فالطوارق يحبون حيواتهم في الصحراء بعيدا عن ضجة المدن والعالم الآخر المحيط بهم ..
هذا الطارقي يحرر البطل القومي والقائد المغدور به " عبد الكبير " من حصن منعزل في صحراء بعد أن يقتل أربعة عشر جنديا وهم نيام ، ثم يجرهم إلى أسرتهم ويغطيهم ؛ كي لا تنهشها الطيور الجارحة ، فيكتشف الآخرون مكان وجودهم ، بينما هم على أسرتهم لا يُكتشف موتهم إلا بعد ثلاثة أيام على الأقل بفعل الرائحة الكريهة التي ستنبعث منهم ..!
هذا الطارقي ومعه " عبد الكبير " سيخوضون مغامرة خطيرة إلى " أرض الخواء " المعروفة بـــ" تيك دابرا " ، ليكون في داخل أرض المتاهة حيث لا يمكن للجنود الذين يحاولون مطاردتهم بمعية رئيس الجمهورية ؛ فــ" غزال صياح " أصبح طارقيا شهيرا كبطل قومي سيغير تاريخ البلاد ، هذا الرجل الأميّ الذي لا يعرف العالم المتحضر ، وأبرز ما وصل إليه ، غير أنه يعرف صحراءه الشاسعة جيدا ، ويوقن بأنه قادر على دخول أرض الخواء المستحيلة في وقت عجز فيه أجداده النبلاء ، بل في كل خطوة كان يخطوها نحو " تيك دوبرا " كان يسمع هاجسا يقول له : " اهرب من تيك دوبرا " ..
لكن هذا الطارقي والذي أراد أن يوصل ضيفه الذي اعتقل في مضربه إلى الجهة الأخرى من هذه الصحراء ؛ كي يكون بأيد أمينة عند الفرنسيين في " باريس " و يستعيد من هناك سلطته التي سلبت ، وينجح البطل القومي بفعل جسارة الطارقي الذي يحرص على أن يبقيه حيا ، ويغذي فيه الأمل ، وهم في عمق أرض الموت مع أربع جمال ومخزون من الماء ، وحين لا يجدون ماء يقوم الطارقي بشق بطن الجمل كي يشربوا ماءه المخزن ودمه ، هذا الدم لسفينة الصحراء هو ما يبقيهم أحياء حتى يصلوا لمكان " القافلة العظمى " التي عرف سيرتها الأسطورية كل طارقي ، تلك القافلة التي كانت حلما قديما لكل الحالمين في الصحراء ، ألف ثروة وثروة والتي حتى شهرزاد لم تتجاسر على تخيلها قط ..
القافلة نفسها التي ضمت عم الطارقي في زمن ما وتاه في غموضها ، فحين وجد نفسه في داخل أرض الأموات كما عرف عن أرض الخواء وجس تلك الهياكل العظمية لرجال ولجمال ماتوا من الظمأ و الطارقي يعرف أن " الجمال عندما تموت من العطش تبحث دائما كأمل أخير عن نقطة اتجاهها " ..
لقد مرت أعوام مديدة على موتهم ، حيث الكنز الذي أصبح كله ملكا له ، كنوز القافلة العظيمة التي كانت تحوي أنياب الفيلة ، وتماثيل من الأبنوس وحرير ، ونقود من ذهب وفضة وألماس بحجم حبة حمص ، إنه في أرض الخواء دون أن تفلح طائرات الجنود من محاولة النيل منه ، لا يوجد أحد في العالم قادر على الإمساك بطارقي أوحد في الصحراء ..!
من مثل هذا الطارقي الذي واجه أسياد العالم بسيف عتيق وبندقية بائسة ، بهما أنقذ بطلا قوميا وثائرا وغيّر تاريخ بلاده ، و لكنه يا للمفارقة المدهشة أنهى سيرة هذا التاريخ حين قتل بالبندقية العتيقة نفسها البطل القومي نفسه الذي أنقذ حياته ؛ لأنه لم يكن يدرك أنه خلال ذاك الأسبوع وهو متجول تائه في مدينة لا تشبهه في شيء أن الرئيس السابق الذي خطط لقتله لخيانته قد حل محله البطل القومي الذي اغتاله في لحظة دهشة وصدمة كبيرتين ، و تنتهي الرواية بحسرة القارئ بلا شك ..!
رواية " طوارق " تقف على كثير من عادات الطوارق كأكثر القبائل بين كل الشعوب الاسلامية الذين مازالوا يتبعون بوفاء تعليمات نبيهم محمد – عليه الصلاة والسلام – كما أنهم أعلنوا المساواة بين الجنسين ونساؤهم ليس فقط أنهن لا يلثمن وجوههن كالرجال ، وإنما يتمتعن أيضا بحرية مطلقة حتى لحظة الزواج دون تقديم حساب عن أفعالهن لا لآبائهن ولا لزوجهم المستقبلي ، والذي يخترنه بأنفسهن وبمحض عواطفهن ، الطوارق قبائل آمنت بحرية الجنسية لنسائها من خلال " حفلات العزاّب " التي يقيمونها بين حين وحين ، ويحق فيها لكل أنثى أن تتمتع برجلها الذي تختاره ..
المرأة الطارقية ، سليلة الصحراء ، أكثر نساء العالم حرية واستقلالا برضى ذكور القبيلة و مباركتهم ...

ليلى البلوشي

حالة ثقافية مُزرية ..!

حالة ثقافية مُزرية ..!

لفت نظري للغاية ما كتبه الناقد د. " سعد البازعي " على صفحته في الفيس بوك يدعو فيها إلى تقصير كبير من وزارة الثقافة السعودية و جهات الإعلام ؛ لأن رواية سعودية مترجمة إلى الفرنسية حازت على جائزة مهمة : " فازت رواية القندس لمحمد حسن علوان بجائزة فرنسية بعد ترجمتها بوصفها أفضل عمل مترجم ، وحضر وزير الثقافة الفرنسية ليسلم الجائزة التي رفعت اسم المملكة و اسم العرب عاليا ، لكن لم نسمع أي تعليق من وزارة الثقافة أو أي المؤسسات الثقافية السعودية ، ترى لو كان علوان لاعب كرة قدم في فرنسا هل كنا سنرى هذا التجاهل الرسمي ، ولو أن علوان كان مطربا من الدرجة العاشرة كما معظم المطربين اليوم ، هل كنا سنرى هذا التجاهل الإعلامي المؤسف ؟ " ..
في الحقيقة هذا الهاجس طالما شغلني كثيرا ، الهاجس نفسه ألمّ بي في الفترة الأخيرة و أنا اقرأ خبر تكريم الدكتورة " فاطمة العلياني " في الدوحة ، التي كرمت ضمن مبدعي دول مجلس التعاون عام 2015م في مجال العمل الثقافي المدني و جاء تكريمها باعتبار صالون فاطمة العلياني هو أول صالون أدبي في سلطنة عمان ، و ضمن أبرز الصالونات الخليجية انتشارا ، الدكتورة فاطمة العلياني التي يعرف الجميع جهودها الجبارة لخدمة الثقافة والفكر في عمان ، و مع ذلك جاء الاهتمام بهذا الخبر هزيلا من وسائل الإعلام و الصحف العمانية ..!
بل ما يضاعف القهر حقا في حال الثقافة العربية عموما و الخليجية خصوصا هو الاهتمام الغريب بالموتى ، بالكتّاب و الشعراء الذين يغادرون عالمنا ..!
فمنذ الأسبوع الماضي وصلتني عشرات الرسائل تطلب مني المشاركة في كتابة تحقيقات أو فقرات عن الروائي الراحل " جمال الغيطاني " الذي ابتسم له الموت ، نعم ، لقد ابتسم له الموت مبشرا إياه بأنه سيتصدّر و أغلفة كتبه و سيرة حياته جميع الصحف و المجلات العربية ، ها هو الموت يثبت هنا أنه وحده من ينصف الكتّاب و الشعراء ، وحده من يجعل حظوظهم في الشهرة تحظى بريق وسائل الإعلام خلال مراسيم جنازته المهيبة ..؟!
حالة مزرية للغاية أن الكاتب حين يموت في العالم العربي يبرق نجمه و على حين فجأة يكون موته سببا لشهرته ، للكتابة عنه ، للتحريض على قراءة أعماله ، سببا لتتراكم التقارير و يلاحق حتى أدق تفاصيل حياته و التي ربما لا تمت مشواراه الثقافي بصلة ؛ لنيل السبق في نشر أخبار عنه حتى لو كانت هزيلة ، حتى لو كانت تلفيقا ..؟!
بل حمى اهتمام بالكتّاب و الشعراء الموتى تصيب حتى الناس العاديين ، أولئك الذين لم يسمعُ بالأديب قط ، بل ربما لا يعرفون حتى نطق اسمه أو كتابته بشكل صحيح ، لكن مع ذلك عبر حساباتهم في الفيس بوك وتويتر يعبرون عن مشاعرهم الجياشة عن رحيل الفقيد الأديب و كأن موته حالة احتفالية يجب أن يشير إليه جميع الناس ؛ ولا أدري لماذا لا تظهر الحالة الاحتفالية نفسها بالأديب و أعماله خلال حياته ، أجهل حقا هذا النكران الفظيع لكثير من الأعمال الفكرية والأدبية حين يكون الكاتب حيّا يرزق و بكامل صحته ، وهل يجب أن يموتوا حتى يحين موعد الكرنفال الكبير ، كما كتب الشاعر " عبدالكريم كاصد " على حائطه الفيسبوكي رثاء لصديقه الشاعر " سركون بولص " في ذكرى رحيله : " المدائح للميّت / دوماً / و دوماً / شاتموك المعزوّن / أو شاتموك الأعزاء / هم / خارج الكرنفال " ..؟!
حالة مزرية ، حقا مزرية ، تنم عن جهل فظيع و احتفال غريب للموت ، وكأننا حقا شعوب تحتفل بالموت و تطلبه ، صار الموت وحده حاكم حياتنا و حارس تفاصيلنا ، الموت وحده صار يقرر متى يئن أوان احتفاء بالأعمال الفكرية والثقافية لكاتب ما ، أو متى علينا أن نجهز العدّة للحديث عن مشوار شاعر مع قصائده ..؟!
الموت صار الحدث الأهم الذي ينعش صفحات الصحف العربية ومجلاتها ، وحده يجعل مبيعاتهم تتضاعف و اهتمام الرأي العام نحوهم تصبو ، الموت صار هو الحدث الأهم الذي ينتظرون بشائره ليولّموا في جنازة الميت الذي وقع الحظ عليه ليكون شهيرا و موضع اهتمام خلال فترة جنازته ، هي فترة مؤقتة ، معدودة لأيام ، فالعرب لا تتعدى أحزانهم عن ثلاثة أيام ، وبعدها تطوى صحفهم سيرة الفقيد كما يطويه القبر إلى موت أبدي ، إلى موت منسي من التجاهل و اللامبالاة و التغييب و التهميش ..!
رحم الله كل الأحياء من الكتّاب و الشعراء و المفكرين والمثقفين حتى يأذن الموت نبش مسيرتهم الإبداعية  ..!
عن نفسي لن أكتب عن الموتى ، سأكتب عن المتفرجين الموتى ، لن أكتب عن أديب ميت بل سأبذل قصارى جهدي كي أكتب عن أديب حيّ ليحتفي بنفسه و حياة شخوصه قبل موته ..!

ليلى البلوشي

السبت، 10 أكتوبر 2015

اعترافات مصوّر في نظام بشار ..!

اعترافات مصوّر في نظام بشار ..!

كنت اعتقد أن ما نشره الكاتب السوري " ممدوح عدوان " في كتابه " حيوّنة الإنسان " من أهوال تعذيب الجسد البشري و تحطيم كيانه الإنساني كليّا ، وكيفية تعاطي الأنظمة مع الجثث ، وكيف أنهم يقومون بإخضاع و تطويع جنودهم للتمثيل بتلك الجثث البشرية وتشويهها كما لو أنها حيوانات خُلقت لتُعذّب بوحشية ، بضمير ميت ومشاعر باردة ، كنت اعتقد أنه كان يبالغ بطريقة ما لاسيما و أن تفاصيل كتابه كانت في زمن ما قبل الثورات العربية ، في ذلك الزمن أجل كنا نسمع أن النظام البعثي يده من حديد على كل من ينقد السلطة ، لكنها وقتئذ كانت تمارس وحشيتها بطريقة سرية للغاية ؛ لتبقى صورتها ملمّعة أمام عدسات العالم ، ولكن الآن ، في زمن اهتياج الشعوب صارت تمارس استبدادها بطريقة علنية أمام العالم كله فالقناع سقط ، سقط تماما ، وصار شيطانها ينفث سمومه بجنون في سبيل الالتصاق بكرسي الحكم ..!
و ما قامت به صحيفة الجارديان من نشر مقابلة مهمة مع مصوّر بشار ، الذي كان يعمل في الشرطة العسكرية ، وكان عمله يختص بتصوير الجثث التي تموت أثناء التعذيب الجسدي في سجن النظام و المتظاهرين الذين يتم تصفيتهم أثناء المظاهرات السلمية هي خطوة جريئة لفضح هذا النظام الفاشي ..!
اعترافات هذا المصوّر نشرت باللغة الانجليزية ، وقام الكاتب والمترجم السعودي " خالد العوض " بترجمتها إلى العربية ونقلها للعالم عبر حسابه تويتر ..
يحكي المصور حكايته بالتفصيل مع كتمان بعض الأمور التي تخفي شخصيته ، خوفا من مطاردة النظام المجرم ، فقد كانت مهنته تنحصر في عمل يتطلب سرية تامة ، فالآلة في يده ستكشف طريقة هذا النظام الوحشي ، وتفضح تعاطيه مع شعبه ، طالما كنا نسمع ونقرأ عن هذه الحيوانية التي كان نظام بشار يمارسها بكل حقد تجاه شعبه غير أن ثمة هناك من كان ينكرها ، أولئك الذين باعوا ضمائرهم للنظام كانوا ينكرون و يتبجحون بأنها مجرد إشاعات كيدية يروّجها كارهي النظام ، لكن اعترافات المصوّر والوثائق المصورة التي التقطها بعدسته تؤكد أنها كانت من قلب الحقيقة ..
يسرد المصور كيف كان يطلب منه أن يتوجه إلى مكان إطلاق نار لتصوير الموقع ثم يذهب إلى حيث تحفظ الضحايا في ثلاجة الموتى لتصويرها ، يقوم بتصوير الجثث من 1 إلى 30 ثم يطلب منه الخروج فورا " نأخذ لقطات متعددة للجثة الواحدة ؛ لكي تسهل عملية البحث .. للوجه .. كل الجسم .. اليدين .. والصدر .. الأطراف " ..
هؤلاء الضحايا الذين قتلهم النظام ، كان ضابط المسؤول يقول عنهم بأنهم إرهابيين ، لكن المصور يؤكد بأنهم كانوا في مظاهرة سلمية و أنهم مجرد متظاهرين سلميين وكان زميل له يبكي قائلا : " الجنود شوهوا الجثث " كانوا يسحقونهم بأقدامهم ويقولون " ابن الزنا "..!
أما السجناء فأنكى أنواع التعذيب و أشده كان من نصيبهم ، كان يرى المصور أثناء التقاط الصور الأخيرة لهم آثار شمع محترق على الجسم ، و آثار موعد غاز على وجوه الضحايا وشعرهم ، كانت علامة الموقد الدائري المعدّ للطبخ مطبوعة على الأجساد ، ليس هذا فحسب ، بل كانت هناك جروح عميقة ، مليئة بالقيح وملتهبة ، لأنها كانت مفتوحة طوال الوقت بلا علاج ، أجساد كان مغطاة بالدم ، وكان الجنود يحركون هذه الجثث بأقدامهم بلا احترام " لم بحياتي شيئا كهذا ، كان النظام يعذّب السجناء لاستخراج المعلومات ، الآن يعذبّهم مستهدفا الموت تحت التعذيب " ..!
لقد تخلصت تلك الجثث من عذاباتها ووجدت في الموت راحة لها من كل شيء دنيوي ، لكن عذاب الضمير والرعب كان من نصيب المصوّر الذي كان يتخيل نفسه أو أحد أفراد أسرته مكان هذه الجثث المشوّهة ، لقد عذبّت بشراسة حتى كان الموت راحتها بل كان يشعر بأن خوفه متمدد ، خوف من الله عزوجل يوم الحساب " ماذا عسانا أن نقول عندما نسأل يوم الحساب : ماذا عملتم مع هذا النظام المجرم ..؟ لماذا بقيتم ..؟ هذه الأسئلة تخيفنا " ، خوف من النظام وشره لاسيما و أنه شهد وحشيتها بأمّ عينيه ، فقد كان يصفّي الجميع بأنذل الوسائل الموجودة على الكرة الأرضية ثم يقتلهم " رأى سامي مرة من خلال فتحة الجدار جنودا يجبرون شابا على قول : لا إله إلا بشار ، ثم قتلوه ، لا أريد موتا كهذا " ..
و الخوف من الثوار أيضا ؛ لأنه كان في نظرهم مع النظام وليس مجرد مصوّر يقوم بعمله ، هذه الأسباب المتكالبة عليه هي التي دفعته يعترف بكل شيء رآه و شهده بنفسه لأحد أصدقائه المقربين ، و بدأ ينقل له الصور بسرية تامة ..
لقد استطاع " قيصر " و هو اسم حركي لحمايته تهريب أكثر من 55 ألف صورة رقمية في وحدة تخزين بيانات USB خارج سوريا ، الصور التقطها بين عامي 2011م و 2013 م لأكثر من 11 ألف ضحية ماتت تحت التعذيب في السجون ، وقد أقامت الأمم المتحدة في مارس الماضي معرضا لجزء من هذه الصور مع التحفظ على شخصية المصور ، من خلالها تمكنت صحيفة الجارديان بعد جهد طويل من الوصول للمصور لإجراء هذه المقابلة ..
قام هذا المصور بشجاعة نشر الصور و ترويجها على الرغم من أن ذلك يكلفه حياته ؛ كي يعرف العالم جرائم بشار في حق الإنسانية ، في حق شعبه المعزول الذي فرّ أكثر من نصفه إلى خارج الديار و أصبح لاجئا في معظم دول العالم ، وعلى الرغم من ذلك المتحكمون بهذا العالم مازالوا يفاوضون السفاح بشار ، لقد كان هذا الأمر محبطا للغاية له ولكل من ساعده لنشر الحقيقة " نحن محبطون ، توقعنا ردة فعل أقوى ، بعد كل هذه الصور المروعة يقرر السياسيون التفاوض مع بشار " ..!
" الأصعب ليس أن يموت المرء ، بل أن يموت الذين حوله كلهم ويبقى هو حيّاً " كما ذهب الروائي " عبدالرحمن منيف " ، نحن الأحياء الأموات حقا ..!
كم عليهم أن يموتوا معذّبين ، وكم علينا أن نحيا لنتعذّب ؛ كي نشهد كل الجرائم الإنسانية و أسوأها في تاريخ البشرية  ..!
يا طلقة الرحمة  ..!

ليلى البلوشي

الجمعة، 2 أكتوبر 2015

أن تكون بائعا للشاي في الهند ..!

أن تكون بائعاً للشاي في الهند ..!

يبدو أن بائعي الشاي لهم حظ وفير ، بل إن مهنة بائع الشاي في الهند تحديدا هي مهنة أصحاب الطموح الذين يمكنهم من خلال ممارستها مع الكسب الجيد التخطيط بهدوء لأحلامهم ، أقول هذا وببالي ثلاث شخصيات عن بائعي الشاي في بلد كبير كالهند ، حققوا إنجازات تستحق الإعجاب وتثير الدهشة أيضا ..
الشخصية الأولى التي طرأت ببالي هي شخصية خيالية غير أنها تلامس الواقع الهندي وربما العربي أيضا ، الشخصية الشهيرة " جمال مالك "  في فيلم البوليوودي الذي حقق نجاحا باهرا " المليونير المتشرد " وهي رواية كتبها " فيكاس سواراب " ، المتشرد هو " جمال مالك " الطفل اليتيم الذي له أخ وتقتل والدتهما نتيجة الطوفان الطائفي ما بين الهندوس والمسلمين ، هذا اليتيم الذي يختار طريقا مغايرا عن أخيه أحد أعضاء العصابات الشريرة ، هذا اليتيم الذي يجد في مهنة اعداد الشاي للموظفين في شركة كبيرة فرصة لتحقيق أحلامه حين يحاول من خلال شركة الاتصالات الذي يعمل بها بائعا للشاي إلى محاولة الاتصال بالبرنامج الشهير " من يربح المليون " ويقف الحظ إلى جانبه حين يحصل على الخط و يرشّح اسمه ، فيصعد منصة المليون و ينالها بجدارة تثير إعجاب الجماهير الهندية الحاشدة ، وكما تثير في الوقت نفسه تشكيك وحنق رجال الشرطة ومقدم البرنامج ؛ فالشاب المتشرد المعدم أناّ له بهذا الكم الهائل من المعلومات ، وتلك المعرفة الثقافية ، وما هو في النهاية سوى بائع للشاي في شركة اتصالات كبيرة ..؟!
بائع الشاي الذي يستحيل إلى المليونير المتشرد الشهير يعطي العالم درسا لاسيما المثقفين والكتّاب منهم بأن أحد أهم وسائل المعرفة وتعزيز الثقافة هو اختلاط مع الناس و الاقتراب من همومهم اليومية ومعايشة تفاصيلهم ؛ كي يكون المرء صادقا كفاية وعلى درجة كبيرة من الخبرة التي يكتسبها رويدا رويدا مغموسة بمرارة التجارب الموجعة ، فتكون زاده الحقيقي في هذه الحياة المتشككة والمليئة باللعنات والطعنات أيضا ..!
أما بائع الشاي الثاني الذي رسم طريق مجده فأصبح رئيسا للوزراء في الهند الحالي هو " ناريندرا مودي " ، كان الثالث من بين ثماني أطفال لعائلة هندية بسيطة عمل في مراهقته بائعا للشاي في إحدى المحطات على الطريق السريع ، وعمل أيضا في مطعم للعمال النقل البري بولاية غوجارات ..
هذا الرئيس الذي يثير الجدل قبل ترأسه وما يزال ، الجدل حول حزبه المتشدد الذي كان قاتل غاندي أحد أعضائه ، وموقفه أيضا من المسلمين في الهند وهو الملقب بــ" تاجر الموت " لا سيما موقفه من قضية حريق قطار في ولاية غوجارات حين كان واليا عليها ووقف في صف الهندوس على حساب المسلمين ، الحادث الذي كان عفويا و أصبح دمويا بل ومدبّرا ؛ لعدم حكمة وربما طائفية رئيس الوزراء وقتئذ ..!
و على الرغم من جهوده الحثيثة على الصعيد الاقتصاد الهندي وهي لبّ برنامجه حيث وعد بأن يكون القرن الحادي والعشرون هو قرن الهند ، غير أن عليه كرئيس لجميع الهنود بكامل أطيافه الدينية ، عليه أن لا يكتفي بإعلان ذلك بل إثباته أيضا في أرض الواقع ؛ لينعم الشعب الهندي بحياة كفيلة بإسعادهم وطمأنتهم على كافة الأصعدة ..!
أما بائع الشاي الثالث المميز حقا فهو " لاكسمان راو " وهو رجل في العقد السادس من عمره تقريبا ، هذا الرجل المواظب الذي يتميّز شايه بمذاق طيب ، يقبل عليها رتل كبير من الناس المتجولين من كافة أرجاء الهند ، ومن يزور الهند سائحا أيضا ، فمقهاه ، الكشك الصغير المسجل من البلدية رسميا مشرع دائما حتى في أيام المطر الغزير..
ولد " راو " لمزارع تقع في ولاية ماهاراشترا غربي البلاد ، وانتقل للعيش في دلهي التي تعد مركزا لكبرى دار النشر الكتب باللغة الهندية وعام 1975م لتحقيق حلمه كي يكون كاتبا ..
وهو ليس بائع شاي عادي البتة بل حامل لدرجة بكالوريوس وتقدم لنيل درجة ماجستير ، هذا الرجل الذي لا يكل عن تحقيق طموحه لاسيما كمؤلف كتب حيث له مؤلفات تزيد عن أربعين كتابا ، وهو يستخدم المنصات الالكترونية ليبيع كتبه التي تحقق مبيعات جيدة وهناك إقبال جماهيري عليها ، فهو قريب من الناس ، ومن مشاغلهم ، ويحدث أنه يعرض مع الشاي مؤلفاته أيضا ، فينتشلها باهتمام كل قارئ مهتم بتفاصيل الحيوات التي يرويها " راو " وهي في النهاية تلامس حياتهم ..
وفوق إنجازاته التي نال عليها جوائز عديدة فهو إنسان تسمو روحه بالتواضع حين عبر قائلا : " يلجأ الكتّاب إلى العديد من الحيل لتسويق كتبهم وصناعة الأفلام ومسلسلات تستند إليها ، إنني رجل بسيط أتلقى جميع رسائلي بالبريد ، توجد كتبي في مكتبات المدارس والكليات والجامعات في المدينة و يطلب مني في أغلب الأحيان ، أن ألقي محاضرات في العديد من المدارس والكليات في أنحاء البلاد ، ما الذي يمكن أن يبحث عنه كاتب أكثر من ذلك ؟ " ..
بائعو الشاي الطموحين هم أنموذج حي ّ في عالم ضاج بالعطالة والخيبات المرةّ و سوء الحظ المزمن ، هم خير من يلهمون العجز في قلوب كل من هو يائس ، كل من يعتقد أن طريق بلوغ الأحلام يبدأ بوسائل غير مشروعة ، أو بسلوك درب ملتوٍ ، كل من يعتقد أن النجاح هو ضربة حظ ، أو أنه يجب أن يكون من الأعلى وحين يصل لمنتصف مبتغاه يسقط سقوطا مدوياً ..!
وحده الحقيقي يدرك أن المجد لا يبلغه الإنسان سوى من أول خطوات السّلم ، خطوة وراء خطوة حتى يصل لنهايته بصبر و أناة وكثير كثير كثير من التعب النفسي والجهد الجسدي وحين يصل سيشعر بقيمة وصوله القيّم ..

ليلى البلوشي